الكاتب : د. أسامة أبوجامع
غزة – فلسطين
في مدينتنا
في مدينتنا كل بار وفاجر , فهذا للخير فاعل وذاك للخمر شارب ، ولكن ما يزعج الإنسان أن الاثنين في مدينتنا قاطن ، وفي قاموس القوم أن من يفعل الخير يلاقي مالاقى مجير أم عامر ، لأنه غريب الأطوار والعادات , فمدينتنا التي علمت الحقد والحسد وتغرق في دروب الفساد لا تستطيع أن تفسر عمل هذا العابد ، أما الآخر فيفعل ما حرمه من يملك زمام الأمر في كل المحافل ، فالخمر في عقيدتنا حرام , أما أكل أموال اليتامى والمساكين والاستيلاء على إرث النساء وعدم وصل الأرحام , فلا عادات تحكمها في مدينتنا ولا حتى العقائد ، فكل يأخذ الأمر من حيث شاء ، وكل شي مسموح بالليل وممنوع بالنهار وبالعكس , وذلك من مبدأ إن بليتم فاستتروا ، غير أن مدينتنا أرض مباركة ولا تحفظُ بها الأسرار ولا تخفى ، فهذا حالها وحال سكانها ولكنهم عنها مختلفون , فهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمونه وهم يعلمون ، فإذا أخذتك الطريق إلي وسط مدينتنا تجد تجارا قد احتكروا المآكل والمشارب ، فلم يقسطوا الميزان وبدوا كالعقارب , وهناك آخر يحمل السلاح ويلبس للناس ثوب المقاتل بزعم حبهم , وهو لهم قاهر ولما ملكوا غاصب وناهب ، وثالث مهنته سياسي يعطيهم من طرف اللسان حلاوة ويروغ كما تروغ الثعالب , يسخرهم لخدمة قصره العاجي طوعا وكرها كالأرانب , هكذا تقتضي المصلحة العليا للوطن عنده في كل المذاهب ، ويصم أذنيه عن الضجيج و الصرخات وآهات بدجى الليل الظليم من كل جانب ، أما أنت فلا ينطلي عليك , وتعلم أن هذا ليس إلا من فعل الأفاعي , لأنها موشحه بألم اعتصر الجسد , وأشحب الوجه وغير اللون وظهرت عليه الرواسب ، فلا الصوم مقبول في مدينتنا , ولا قيام الليل ولا النوافل ولا قراءة القرآن ولاحتى الضحايا في النوازل، إن الصوم صوم اللسان هكذا علمنا في الصغر ، فمن يكبر في مدينتنا يرى الألسنة قد أطالها الكذب والقذف والنفاق , والابتسامة الصفراء والبغضاء ديدن الناس بدل التحابب , فذلك ينسي ما علم , وان كان نقشاً على العقل , أو تكن من ذكر المعابر, يرق لها القلب وتذهب بالمدامع ,على ماض كان أجمل القيم وأحلى من كل المآثر ، يفكر به قليلا ثم ينصرف لواقع مرر الأحوال وأيئس من طموح كان حلما لكل حائر ، يجلس عاجزا بجوار منزله المتواضع كالذئب الجريح ينتظر الفريسة , فلا يضره أخذها من فم الأسد أو العقاقب ليحيا كريما يوما واحدا أو سويعة ينسى الحرمان والمتاجر, ويدخل جنة الدنيا بلا حواجز , نعم يدخل وقد نزع ملابس الخير من شدة الآلام , فتلك هي الحقائق , وتلك مرارتها في النفوس وفي الضمائر, ومدينتا المقصودة بالتأكيد من وسط المدائن ، لقد ضاعت فيها كرامة الإنسان وكرامة الأوطان وحتى البهائم , أضاعها كل مجتاح وصائل , وتركنا جميعا أنا وأنت وهي وحيدين في شراك الظلام التي أوقعنا فيها كل متعالم وجاهل , هذا هو حال مدينتنا , لا يمكن أن يزيف واقعها , كما هو حال البغايا , ألا فلتنعى مدينتنا النعايا,ولكن اللهم مولاي بلا بغايا , بلا بغايا ، بلا بغايا.
Social Link