ألسنة لهب وعمود دخان

ما برح الإعلام سهلا أو وعرا أو جبلا أو صحراء إلا استصرخ الأمم ومجتمعها وقد يكون صادقا أو قد يكون خجولا ، غير أن الحقيقة أن شعبا هناك يذبح منذ عشرات السنين ، يمر اسمه عليك فتتشوق لسماع أخباره وكأنه مسلسل تلفزيوني أو فلم تسجيلي لكن أبطاله وأحداثه واقع من الأحزان والآلام وما بينهما ثكلى وأرامل وأيتام ومشاعر جياشة على فقد زوج كان يغني لزوجته أغنية عشق أو حبيب كتب اسم حبيبته على جذع شجرة ورسم لها قلبا كلما مرت من عندها طارت فوق السحاب أو آخر يرجع في المساء قبل أن ينام والداه العجوزان ليقبل أيديهما ويشكرهما كما ربياه صغيرا وأحسنا تربيته ، ويذهب لبيته فيداعب أطفاله ويعاسف أزواجه فترتسم البسمات على الوجوه وأحيانا يصادف أحدهم إحساس بالألم لأنه نسي أن يحضر لولده لعبة قد طلبها أو ضاقت به الحياة فلم يقدر على إحضارها ، عزيزي التمس منك العذر لربما أخذتك إلي مالا ترغب أن تري أو تسمع ، فذاك البيت الذي تكلمنا عنه لم يكن جمادا أصما أو أبكما لا ينطق ولا يدمع ولا يفرح ، لو تكلمت معه لعلمت أنه بشر يحب ويكره ، بل ويسر ويحزن .
إن ذاك المنزل الذي دمره المحتل المجرم فهو حجر في الفضاء تناثر , وألسنة لهب في السماء تصاعد ، وبقية حلم تطير , أيعتقد انه حجر لا يتأثر ؟؟! , كلا وألف كلا !! إنه بشر يحمل في عمود دخانه أرواحا بريئة ، تتساقط , فهناك طفل نائم يضحك إذ هو لا زال يحلم بتلك اللعبة ، التي طالما تمناها حلما ويقظة , فتارة يبكي فتهرع إليه أمه لتهدئ من روعه ، وأخرى ذاك بيت أخيه الحي الذي تجولت بداخله أمانيه وخواطره ويشخبط بطبشورته على حائط أفكاره ويلعب بدراجته فرحا بها ينتظر رجوع والده الذي خرج يحمل شهادة حب وطنه بين أضلعه , وروحه على راحته ، يقول فداك نفسي ياوطني وأهلي ومالي وولدي وينشد أغاني الفداء ، يخبر الدنيا بأنه خارج من أجل الأرض التي رويت عروقه بمائها ، وبنت عظامه أغذيته ، وترى بريقا من اللآلئ على وجنتيه التي شقت طريقها على وجهه الشاحب من رواسب الزمان ، يقولا إن الأمر لله من قبل ومن بعد ؛ فينطلق فرحا بدعوة والدته التي ودعته متلفعة بمرط الفرح لفلذة كبدها ، غير متلعثمة في وداعها له أنها تعلم أنه ذاهب قد لا يرجع مرة أخرى . فالجميع ينظر السماء ويناجي من فيها بأن يحفظ من تبقى .
ألا تعلم أنت أن هذا العدو لا يفرق بين الحجر أو الشجر ، ألا ترى أنه يقتلع أشجار مباركة ويفسد فيها محصولها ويحرق كبارها ولا يتورع عن إيذاء أطفالها ونسائها ، وأخرج إخوة  من ديارهم كانوا آمنين بها وهجرهم وشتت الأحباب وباعد بينهم المسافات فلا شوق يقربها ولا سفينة أمل تصلها ولا دمعة حنين تزرفها مآق جفت .
فانتظر ، فالفرج قد سطر لمن يصبر ؛ فلا تحزن , ولعل معجزة من بين هذا كله تنبت برعما عما قريب يصلب ، فيخبرك بأن فلسطين على العدوان عصية ، وأن قضيتي وهويتي ورايتي وأرضي هي القضية , وأن قدسي ليس فيها مجال للدنية , وأن المحتل حتما عنها سيجلي , وأن كرامة الوطن هي أم الكرامات وقضيته هي القضية , سأسطر ذلك على جدران قلبي وبيتي ؛ فإن سال دمي , وتناثرت حجارته , تناثرت القضية , فملأت سائر أرضه ؛ بحاراته وشوارعه وأزقته , فكان الوطن بكله أغنية أبدية , يرددها كل المجاهدين من أجل فلسطين الأبية , فلا وألف لا لتجار القضية ؛ يا فلسطين الأبية , يا فلسطين الأبية , يا فلسطين الأبية

د. أسامة محمد أبوجامع - غزة
ناشط شبابي وسياسي - محاضر جامعي
Dr.osama@hotmail.com