انتفاضة الحجارة... هكذا سميت الانتفاضة الفلسطينية الأولى؛ لتعبر عن مدى التفاوت الواضح في آلة الحرب فيما بين الجيش الإسرائيلي المدجج بسلاحه الآلي ومدافعه المتعددة الأنواع وقنابله من المسيلة للدموع إلى القنابل المحرمة دوليًّا في مقابل طفل أو شاب فلسطيني يحمل حجرًا يتصدى لتلك الآلة العسكرية بكل تطوراتها بصدر عارٍ مسلحٍ بسلاح لم يعرفه الإسرائيليون هو الإيمان وقوة الإرادة، ويضع نصب عينيه هدف "فلسطين" دولة مستقلة عاصمتها "القدس".

كان هناك كثير من الأحداث والتداعيات التي أشعلت شرارة الانتفاضة الأولى، فقد توسعت إسرائيل في مخططاتها الاستيطانية وتزايد عدد المستوطنات بدرجة كبيرة؛ مما يقلص من الأراضي الفلسطينية، ويهدد بخطر داهم على الوجود الفلسطيني على أرض "فلسطين"، وأصدرت إسرائيل "قانون الطوارئ" وهو القانون الذي تستخدمه لتبرير الأساليب التعسفية الإسرائيلية ضد المدنيين من أبناء الشعب الفلسطيني، كما أصدر الكنيست الإسرائيلي في عام (1400 هـ = 1980م) قانونًا يقضى بجعل "القدس" الموحدة عاصمة لإسرائيل، ثُمَّ ما لبث أن اجتياح الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان عام (1402 هـ = 1982م)، وارتكب أبشع المجازر ومارس أعنف الجرائم بالتعاون مع المليشيات المارونية، التي كان أبرزها وأعنفها وأكثرها وحشية مجزرة "صبرا وشاتيلا"، وقد كان لذلك الحدث وقع كبير في الشعور الفلسطيني العام بأن البلاد العربية لن تستطيع أن تساعدهم في حل قضيتهم، وأن الحل الأمثل هو التحرك المباشر من الشعب الفلسطيني نفسه لاستعادة أراضيه، وبخاصة في ظل ما واجهته المنطقة العربية من قلاقل وصراعات عربية عربية، ثم كان انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي بالكويت في (جمادى الأولى 1407 هـ = يناير 1987م) الذي أصدر قرارًا باعتبار "منظمة التحرير الفلسطينية" هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني؛ مما كان له أكبر الأثر في تعزيز موقف المنظمة، وبعد ذلك بنحو شهر في (جمادى الآخرة 1407 هـ = فبراير 1887م ) صدر بيان "بروكسل" الذي دعم دعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن عقد مؤتمر دولي للسلام، والذي جاء مخيبًا لآمال الإسرائيليين الرافضين لمبدأ السلام، وكانت النتيجة أن فشل التوصل لعمل مؤتمر دولي للسلام في جلسة مجلس الأمن الطارئة التي دعت إليها زيمبابوي بصفتها رئيس حركة عدم الانحياز لإدانة قتل الطلاب الفلسطينيين في جامعة "بير زيت"، ورغم الجهود الدولية المكثفة إلا أنها لم تثمر عن تحرك فعلى في مواجهة "إسرائيل"، كما أدَّى صمود الشعب الفلسطيني في حرب المخيمات إلى استعادته لثقته في نفسه وفي قدرته على مواصلة المواجهة والصمود ضد الاحتلال.
كما كان هناك العديد من الأسباب التي تشعل غضب الشعب الفلسطيني، وتحرك ثورته في كل يوم، كان من أبرزها دوام الاحتلال الإسرائيلي، فهو احتلال يومي يحسه الشعب الفلسطيني ويتذوق مرارته؛ مما يولد المزيد من الضغط النفسي والشعور بالظلم، كذلك ما يتعرض له أبناء الشعب الفلسطيني من الممارسات العدوانية الصهيونية؛ فالشعب الفلسطيني يعيش كسجين في أرضه وتمارس ضده أبشع الأساليب الاستفزازية، وتنتهك حرماته ومقدساته من قِبَل قوات الاحتلال والمستوطنين اليهود بشكل دائم، بالإضافة إلى شعور الفلسطينيين بانحسار أهمية القضية الفلسطينية، سواءٌ على المستوى العربي أو على الصعيد الدولي، فقد ظهرت مجموعة أخرى من القضايا على الساحة العربية، مثل: قضية حرب الخليج بين كل من العراق والكويت، وقضايا حرب النجوم، والصراع الأمريكي السوفيتي المحموم على التسليح التي استحوذت على كثير من الاهتمام، وانحسر بجوارها التواجد الدائم للقضية الفلسطينية.
كانت كل تلك الأحداث مؤشرًا هامًّا للشعب الفلسطيني بأن النصر واستعادة الأراضي الفلسطينية لن يتأتى إلا بتوحيد الصف والاعتماد على النفس وعدم الاعتماد على المساعدات الخارجية.

شرارة الإنتفاضة

بدأت شرارة الانتفاضة في مساء يوم (16 من ربيع الآخر 1408 هـ = 8 من ديسمبر 1987م) حينما كان حافلات تقل مجموعة من العمال الفلسطينيين من أماكن عملهم في "إسرائيل" عائدة إلى بيوتهم في "قطاع غزة" المحتل، و توقفت الحافلة عند الحاجز الإسرائيلي للتفتيش فإذا بشاحنة عسكرية إسرائيلية ضخمة تدهمها؛ مما أدى إلى استشهاد أربعة عمال وجرح سبعة آخرين من سكان مخيم "جباليا" في القطاع، وقد لاذ سائق الشاحنة العسكرية الإسرائيلية بالفرار على مرأىً من جنود الحاجز دون أن يعترضه أحد منهم، وما أن انتقل الخبر إلى أهالي الضحايا حتى اندلع بركان الغضب الشعبي صباح اليوم التالي من مخيم "جباليا"، حيث يقطن أهالي أولئك الضحايا، وامتد بركان الثورة والغضب ليشمل قطاع "غزة" كله، وترددت أصداؤه أيضًا في "الضفة الغربية" المحتلة على إثر تشييع جنازة الشهداء الأربعة، وكان رد الفعل الإسرائيلي عنيفًا إزاء هذه الأحداث، فقد حشدت "إسرائيل" آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية بكل إمكاناتها وأسلحتها في مواجهة جموع المتظاهرين الغاضبة، وشاركت الطائرات المروحية لقوات الاحتلال في قذف القنابل المسيلة للدموع والدخانية لتفريق المتظاهرين، وقد استشهد وأصيب في ذلك اليوم كثيرٌ من المواطنين، وفرضت سلطات الاحتلال نظام منع التجول على بلدة ومخيم "جباليا" وبعض الأحياء في قطاع "غزة".
ومع صباح يوم (18من ربيع الآخر 1408 هـ = 10من ديسمبر 1987م)، تجددت المظاهرات، وتصاعدت الاشتباكات مع قوات الاحتلال فعمَّت معظم مدن وقرى ومخيمات "الضفة الغربية" وقطاع "غزة" تظاهرة تعد الأولى من نوعها، تمثل أكبر تحدٍّ لسلطات الاحتلال، وتعبر عن غضب الشعب الفلسطيني ونقمته إزاء إجراءات "إسرائيل" التعسفية والقمعية ضد أبنائه العزل، وقد ضرب أبناء الشعب الفلسطيني في "الضفة الغربية" وقطاع "غزة" أروع الأمثلة في التحدي والصمود، ضد آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية، ومواجهات الدولة الصهيونية الوحشية والمتعسفة ضد المتظاهرين، فواجهوا جنود الاحتلال المدججين بأحدث الأسلحة، وأكبر الإمكانات بأسلحتهم البسيطة التي لا تتعدى الحجارة والزجاجات الفارغة وقنابل المولوتوف وإيمانهم القوي، وخلال تلك المواجهات غير المتكافئة أصيب العشرات من المواطنين، وسقط العديد من الشهداء برصاص جيش الاحتلال.
وتحول الصدام في "قطاع غزة" بين الجماهير الثائرة وقوات الاحتلال المزودة بأحدث العتاد والسلاح إلى معركة حقيقية فأغلقت المدينة تمامًا، وأوصدت الطرق بالمتاريس، وتوقفت الدراسة في جميع المدارس والجامعات، وانتشر الدمار في المدينة، وتصاعدت ألسنة النيران والدخان؛ لتغطي سماء المدينة، وامتلأت الشوارع بالحطام، وانطلق المتظاهرون يرفعون الأعلام الفلسطينية وصور الشهداء، وقد تعالت هتافاتاتهم المنددة بالاحتلال وأساليبه الوحشية والقمعية.
واستمرت أحداث الانتفاضة وتصاعدت يومًا بعد يوم، وفي كل يوم تسطر جموع الشعب الفلسطيني المزيد من صور البطولات والتضحيات، ويسجل العشرات من الشهداء أسماءهم في سجلّ الخلود بدمائهم في مواجهاتهم البطولية الفريدة مع إرهاب الدولة الصهيونية، في أضخم وأطول انتفاضة جماهيرية عارمة شهدتها الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعرفها العالم أجمع في العصر الحديث، حتى انتهت في (25 من ذي القعدة 1414 هـ = 5 من مايو 1994م) وذلك مع دخول القوات الفلسطينية المحررة إلى أرض الوطن بعد توقيع اتفاقية إعلان المبادئ الفلسطينية- الإسرائيلية في "أوسلو".